منصورعبدالناصر
في الثلث الأخير من القرن الثاني للهجرة، وفي سوق من أسواق بغداد المدورة آنذاك.. مرت جارية كانت تحمل إناءً فيه شيء ما، وحين زلت قدمها سقط من يدها الإناء وأنكسر.. حينها سارع رجل كان يعمل في دكانه داخل السوق حاملا بيده بعض ما لديه من البضاعة وأعطاه لها عوضا عن ذلك الإناء، وفي تلك اللحظة كان هنالك من يراقب المشهد، حيث أعجبه كثيرا ما صنع الرجل، فقصده قائلاً: بغض الله ذلك الدنيا وأراحك مما أنت فيه..!
كان أسم هذا الرجل هو أبو الحسن سري بن المغلس السقطي وكان الذي راقب المشهد وأعجبه هو الصوفي الشهير صاحب الكرامات الشيخ معروف الكرخي.
ومنذ تلك اللحظة (كما روى سري بعد ذلك) انقلبت حياة الرجل وصارت الدنيا، قولا ثم فعلا، أبغض شيء إليه.
قيل عنه أنه أول من تكلم ببغداد بلسان التوحيد وحقائق الأحوال وهو أمام البغداديين وشيخهم وقيل عنه أيضا أنه كان أوحد زمانه في الورع، ومع هذا كان كما ذكرت الروايات وجيها عند الملوك والأكابر معظما بين أصحاب السيوف والمخابر(1)، والمقصود بالمخابر هنا رجال الدولة المتنفذون والمسؤولون عن ما يجري داخل المجتمع البغدادي في تلك الأيام من أقوال ونوايا ومخططات (انقلابية) على السلطة الحاكمة آنئذ.
قال عنه أبو نعيم صاحب كتاب (الحلية): هو العلم المنشور والحكم المذكور، شديد الهدى حميد السعي، ذو القلب التقي والورع الخفي، عن نفسه راحل، ولحكم ربه نازل.
هو أستاذ الجنيد البغدادي المتصوف الذي أنشأ مدرسة بأسمه، وهو من صحب معروفا الكرخي وتتلمذ على يديه، غير ان المصادر المتوفرة لم تستفض في ذكر نمط العلاقة التي نشأت بين الأستاذ وتلميذه انما اكتفت بذكر هذه الحادثة بينهما، وأنه تلميذه دون تفاصيل أخرى.
أن من يزور منطقة (الشونيزية) الآن سيجد فيها مجموعة كبيرة من المراقد العائدة لأسماء طرزت التاريخ والعلوم الدينية بأفعالها وآثارها المهمة، وهذه المنطقة (الشونيزية) لا أحد في بغداد يعرف موقعها بالضبط لكونها محصورة بين مجموعة من الطرق المتقاطعة وسكك الحديد الخارجة من محطة علاوي الحلة القريبة منها.. والشونيزية ترجع تسميتها كما يروي سكان المنطقة الى زمن قديم جدا يكاد أن يتجاوز زمن البابليين ودولتهم التي نشأت في نهاية القرن السابع قبل الميلاد.. ومعنى هذه الكلمة بالسريانية أو الآرامية القديمة هو المنفى، وقد تكون التسمية تعود الى زمن السبي البابلي لليهود الذين تم تهجيرهم في القرن الخامس قبل الميلاد وإسكانهم على تخوم الإمبراطورية البابلية آنذاك التي تمثلها هذه المنطقة، والدليل المادي الأثري على ذلك هو وجود مرقد للنبي يوشع بن نون في المقبرة (وفي روايات أخرى يقال أنه قبر لأحد الكهنة اليهود كان أسمه يوشع) فضلا عن ان الموقع الذي يوجد فيه مرقد (ذو النون المصري) كان بالأصل معبدا يهوديا معروفا حتى بدايات القرن العشرين.
أن كل ما ذكرناه عن هذه المقبرة يحثنا على إثارة الكثير من الأسئلة الجادة عن سر بقائها حتى يومنا هذا محملة بكل هذا الكم من الاسرار والغموض.. بالأخص إذا ما ذكرنا الأسماء الأخرى للمراقد الموجودة هناك، فما معنى أن يكون هنالك قبر لذي النون المصري الذي تذكر الكتب أن قبره في مصر الآن؟ وما معنى أن يكون لبهلول الكوفي (المجنون) الذي كان يركب قصبة ويركض خلفه الصبيان، مرقد..؟ ألا وهي من هذا كله أن نجد مرقدا مجاورا حائطا لحائط لمرقد وقبر البهلول وعلى مسافة قصيرة تعد بالأمتار من قبري الجنيد والسقطي الى (عورو نعناق) المؤسس والمبتكر لعقيدة السيخ الهنود الذي تذكر الكتب انه زار هذا المكان قبل خمسمائة عام؟ وما معنى كل هذا لولا أن هناك تراكمات وصلات تاريخية متلاحمة زمنياً بين أنواع وأشكال مختلفة من المذاهب والأديان برجالاتها ورموزها وكراماتها التي حفظت في أقل تقدير بقاءها حتى يومنا هذا؟ وعودة الى موضوع السري السقطي نقول: اننا عندما دخلنا بعد اجتياز الباب الخارجي للمقبرة وسلسلة القبور التي اصطنعت لمسافة ستين مترا على الجانبين وصلنا الى مرقد السقطي الذي هو عبارة عن بنايه بحجم بيت كبير نسبيا ترتفع فوقه مئذنتان صغيرتان.
وبمجرد تجاوز الباب الخارجي يواجه الزائر بقفص معدني كبير على اليسار كتب على الستارة التي وضعت فوقه: هذا قبر الجنيد البغدادي قدس سره، وعلى الجانب الأيمن بمسافة أبعد من القفص الأول نرى قفصا آخر أصغر حجما واقل فخامة كتب في أعلاه على قطعة من القماش عبارة: هذا هو قبر الشيخ السري السقطي قدس سره.. ووجود القبرين معا لم يحصل صدفة فبقاؤهما معا هو لصلة القرابة بينهما أولا، وصلة الأستاذ بتلميذه كما ذكرنا ثانيا، وثالثا صلة التواصل بين حلقات السلسلة الصوفية الشهيرة.
والجدير بالذكر ان الشيخ الجنيد كان قد طلب من الشبلي وهو أحد حلقات السلسلة أن يكون قبره جوار قبره إلا أن الشبلي أبى ذلك.
ويعود القفص الذي وضع فوق قبر الشيخ السقطي الى السلطان العثماني عبدالحميد الثاني، إذ أنه أرسله كهدية للمرقد قبل أكثر من مئة عام مضت.
وتذكر المصادر التاريخية عن شخصية السقطي الكثير مما كان يتميز به، فهو معروف بأنه قد لزم بيته طويلاً ولم يشأ الخروج منه لولا صلاة الجماعة والجماعة، وكان لا يراه أحد في غيرهما سوى من يقصده في بيته، وقد عبر عن سبب ذلك بأقواله المختلفة التي تشير الى طبيعة العصر المضطرب الذي كان يعيش فيه، وكأنه بذلك كان رائدا للكثيرين ممن يعيشون في عصرنا هذا واختاروا العزلة والابتعاد قدر ما استطاعوا.
ولهذا السبب قال يوما: من اراد ان يسلم له دينه ويستريح بدنه ويقل غمه فليعتزل الناس، لأن هذا زمان عزلة ووحدة فكيف يستنير قلب الفقير وهو يأكل من مال من يغش في معاملته، ويعامل الظلمة وأكلة الرشا، لا سيما أن كان يسألهم بذلة وخضوع لعدم حرفة تكون بيده؟(2).
وقد تفرد السقطي في تعريفه للتصوف بقوله: أنه أسم لثلاثة معان: الأول هو الذي لا يطفىء معرفة روعه، والثاني لا يتكلم بباطن في علم ينقضه ظاهر الكتاب والسنة، ولا تحمله الكرامات على هتك محارم الله(3).
وحتى يتفرغ قلبه ويحسن أدبه مع الله حدث له كما روى هو بنفسه حادثا مر به فقال: اني حين غزوت راجلا، فنزلت مع من كان معي خربة للروم القيت نفسي على ظهري ورفعت رجل عن الجدار فاذا هاتف يهتف بي، ياسري بن مغلس، أهكذا تجلس العبيد بين أربابها؟(4)
وبغض النظر عن هذه الرواية بمدلولها الصوفي نرى اشتراك الصوفية في الحرب والغزو والدفاع عن الإسلام وتوسيع رقعته بعكس ما هو مشاع عنهم.
كان السقطي رحمه الله يحذر أخوانه من مجاورة الاغنياء كثيرا لأنهم (وقراء الأسواق والأمراء) يفسدون كل من جاسلهم، ويجهر بذلك كله، بأصدق تعبير وهو يبكي بمرارة (تصلح ان تكون شاملة لحالنا الآن) فيقول: (أن طرق الصالحين قد توعرت وقل فيها السالكون وقد هجرت الأعمال وقل فيها الراغبون ورفض الحق ودرس هذا الأمر، فلا يراه إلا في لسان كل بطال ينطق بالحكمة ويفارق الأعمال الصالحة، وقد افترش الرخص وتعهد التأويلات واعتل بذلك العاصون).
ثم يعبر عن كل هذه الأحوال الفاسدة في عصره بصرخته التي تقطر حزنا وخيبة أمل قائلا: (فيا غماه من فتنة العلماء، وواكرباه من حيرة الأدلاء)(5).
أخيرا يذكر أن الجنيد طلب يوما من سري موعظة ووصية فقال له (لا تصحب الأشرار، ولا تشتغل عن الله بمجالسة الأبرار والأخيار) ولم تكن هذه المطالبة من الجنيد، الا لادراكه كمال مجاهدة سري السقطي وملازمته بيته، للاقبال على الله تعالى بالقلب والجوارح، فهو من قال عنه انه ما رأى أعبد منه، حيث أتت عليه ثمان وتسعون سنة ما رؤي متضجعا إلا في علة الموت.
وفي سنة 253 للهجرة توفي سري السقطي ودفن في (الشونيزية).. وما زال الناس والعلماء يتذكرونه ويزورونه لكونه واحدا ممن اجتمع لهم علم الظاهر، وعلم الباطن.
المصادر:
1)دراسات في التصوف الإسلامي، محمد شرف، ص 223.
2)المصدر نفسه، ص 224.
3)التصوف، الثورة، د. عفيفي ص 42.
4)تاريخ بغداد، الجزء 9، ص 187- 188.
5)الطبقات الكبرى، الشعراني، الجزء الأول، ص 63
مع تحياتي
أسماء السَّقَطي